فقهاء الملوك من تحريم الاحتفال بالمولد النبوي إلى وجوب طاعة الحكام الذين يزنون ويلوطون (1 – 2)

أحمد الحبيشي

 

تحتفل دول عديدة في العالم بذكرى مولد النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، حيث تعد هذه المناسبة عطلة رسمية في معظم العالم العربي والإسلامي ، ومنها على سبيل ألمثال: العراق، الجزائر، المغرب ، السودان، سوريا ، مصر، ليبيا، الأردن تونس، فلسطين ، الإمارات ، الكويت ، سلطنة عمان ، إيران ، باكستان ، نيجيريا واليمن.

يرى الكثير من المتابعين للحالة السياسية في العالم الإسلامي أن التيار الوهّابي يستخدم تحريم الاحتفال بالمولد النبوي وسيلة لتمزيق وحدة المسلمين من خلال التكفير والتحريم و التبديع !!

في تقديري الشخصي أن الوهّابية التي تستقوي بالدولة السعودية هي امتداد عقائدي للحنبلية التي استخدم الخلفاء العباسيون وملوك الطوائف تشدد أتباعها وجمودهم العقائدي لتقوية دعائم سلطانهم واستبدادهم ، وتصفية آثار الحكام الذين سبقوهم في القرون الثلاثة الهجرية الأولى ، وفي مقدمتها الانجازات العقلية والعلمية الموروثة عن عهود هارون الرشيد وأبنائه.

توفي هارون الرشيد عام 809 م في خراسان وأخذت البيعة لابنه الأمين وفقًا لوصية والده التي نصت أن يخلف المأمون أخاه الأمين، إلا أن الخليفة الجديد سريعًا ما خلع أخاه من ولاية العهد وعيًّن ابنه موسى الناطق بالحق وليًا للعهد، وكان المأمون آنذاك في خراسان، فلما بلغه أن أخاه قد خلعه عن ولاية العهد أخذ البيعة من أهالي خراسان وتوجه بجيش لمحاربة أخيه، وقد استمرت الحروب بينهما أربع سنوات، إلى أن استطاع المأمون محاصرة بغداد والتغلب على الأمين وقتله عام 813 م، ظافرًا بالخلافة .

تفرّد عهد المأمون بتشجيع مطلق للعلوم من فلسفة وطب ورياضيات وفلك وكيمياء ، واهتمام خاص بعلوم اليونان، وقد أسس الخليفة عام 830م جامعة بيت الحكمة في بغداد والتي كانت من كبريات جامعات عصرها، واخترع في عهده الاسطرلاب وعدد من الآلات التقنية الأخرى ، وحاول العلماء قياس محيط الأرض ما يدلّ على الاعتراف بكرويتها من ناحية ، وتطور العلوم من ناحية ثانية, وقد تكون عمليات الترجمة التي رعاها هو وحاشيته وولاته أبرز سمات عهده، إذ نقلت خلالها العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانية إلى العربية، واكتسبت من خلاله اللغة العربية مكانة مرموقة إذ تحولت من لغة شعر وأدب إلى لغة علم وفلسفة، وكذلك فقد ساهمت عمليات الترجمة في إرساء منسوب ثقافي عالٍ في الدولة.

وقد أثر الانفتاح الثقافي على المعتقدات الدينية ، فقال المأمون بخلق القرآن وأجبر الناس على الحذو في هذه الصيغة ، كما أعلن المعتزلة عقيدة الدولة الرسمية، ثم عهد بولاية العهد قسطًا من الزمن لعلي الرضا الشيعي وأخذ الشعار الأخضر بدلاً من الشعار الأسود، ثم عاد إلى شعار بني العباس الأسود وعيّن أخاه وليًا للعهد.

زار المأمون أثناء حياته مصر ودمشق والجزيرة السورية وتوفي ودفن بطرطوس شمال بلاد الشام في 10 أغسطس سنة 833 م، الموافق 19 رجب سنة 218هـ.. وأخذت البيعة لأخيه محمد المعتصم بالله الذي بنى مدينة سامراء وفتح عمورية قرب أنقرة مسقط رأس العائلة الإمبراطورية البيزنطية، واستمرت عمليات الترجمة والنهضة العلمية في عهده كما افتتحها سلفه المأمون ، ولعلّ قضاءه على ثورة بابك الخرمي التي أسست دولة شاسعة في أذربيجان وما جاورها منذ عهد المأمون أبرز أعماله ، إذ أن بابك الخرمي كان قد مزج بين الإسلام والمجوسية وأسس دينًا هجينًا وعمد إلى إصلاحات اقتصادية واجتماعية جذرية ما ساهم في بقائه عصيًّا على الدولة العباسية لمدة عشرين عامًا، إلى أن استطاع القائد التركي أفشين القضاء عليه ، ومن الثورات الأخرى ثورة الزط (الغجر) جنوب العراق وإجلاء المعتصم إياهم إلى الأناضول .

بحسب المراجع التاريخية المعتبرة لم يستطع العباسيون الحفاظ على وحدة الدولة كما فعل أسلافهم الأمويون ، فاستقلّ عبد الرحمن الداخل بالأندلس منذ قيام الدولة ، وفي خلافة الهادي استطاع إدريس بن عبد الله بن الحسن الفرار من مذبحة لحقت بأسرته وأنصارها في المدينة المنورة إثر مطالبة والده بالخلافة ، واتجه إلى المغرب حيث أسس الدولة الإدريسية المستقلة وعاصمتها فاس، وفي عهد المأمون تولى إبراهيم بن الأغلب ولاية أفريقيا التي تشمل ليبيا وتونس وشمال الجزائر، وبقي حكم هذه الولاية محصورًا في ذريته حتى ظهور الدولة الفاطمية ، ولم يحفظ بنو الأغلب للخلفاء العباسيين سوى الخطبة وسك اسم الخليفة على النقد، وبذلك فإن الدولة العباسية منذ عهود قوتها لم تحفظ وحدة أراضيها الإدارية ، وهو الأمر الذي تم تكريسه رسميًا في كل جهات الدولة خلال عصور التراجع والانحطاط .

حاول المتوكل على الله الثورة على واقعه، فقتل عددًا من قادة الجيش كابن الزيات وإيناخ، ونقل عاصمة الدولة إلى دمشق عام 858 م إلا أنه اضطر للعودة إلى سامراء بعد شهرين فقط بضغط الأتراك.. وقام أيضًا بتحويل المذهب الرسمي من المذهب المعتزلي إلى المذهب السُّني الحنبلي، ما مثّل نقلة كبيرة لدى الدولة العباسية التي طرأت عليها متغيرات دينية، إذ بدأت بالتقرب من الشيعة ، واعتمدت أفكار المعتزلة كعقيدة للدولة منذ عهد المأمون.

منع الاحتفال بالمولد النبوي وهدم ضريح الإمام علي في النجف والإمام الحسين بن علي في كربلاء

كان المتوكل على الله قد أمر عام 850 م بمنع الاحتفال بالمولد النبوي بالتزامن مع هدم ضريح الحسين بن علي في كربلاء وضريح علي بن أبي طالب في النجف ومنع الناس من زيارتهما والاحتفال بذكراهما، كما أمر بهدم جميع الكنائس في العراق ومناطق أخرى وكذلك الكنس اليهودية مع وضع شارات معينة على لباس المسيحيين واليهود ومنعهم من ركوب الخيل، وعلى الرغم من دعواته المتلاحقة للعمل بالشريعة الإسلامية إلا أن ما أقدم عليه يتنافى مع قواعدها، حيث كفل نظام أهل الذمة الإسلامي حقوقًا وكرامة أوسع لليهود والمسيحيين.

في حقبة الخليفة المتوكل ومن جاء بعده تغوّل نفوذ الحنابلة ، وأصبحوا يطاردون تراث شيعة آل البيت بذريعة محاربة الكفر والبدع ، لكنهم لم يقتربوا من بطش الحكام وممارساتهم المخالفة لتعاليم الإسلام وقيمه ، بل إنهم دعوا إلى وجوب طاعة الحاكم حتى وإن جاهر بشرب الخمر وممارسة الزنى واللواط وجلد ظهور الناس ونهب أموالهم.

أمثال هؤلاء الحنابلة وفقهاء الملوك والسلاطين برروا للخليفة العباسي المتوكل وأبنائه وإخوانه في القرن الثالث الهجري وما بعده نبش وتدمير قبور الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين -كرم الله وجوههم- وتحريم الاحتفال بالمولد النبوي وذكرى عاشوراء ، وملاحقة واضطهاد وتكفير وتبديع من يخالف عقائدهم الضالة والتنكيل بهم !!

وقد كشف الفقيه السعودي عبدالعزيز الريَّس عن عقيدة الحنابلة الوهابيين في مملكة آل سعود عبر شريط فيديو تداولته مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، حيث أصر على تحريم الاحتفال بالمولد النبوي ، مؤكداُ وجوب طاعة الملوك والحكام حتى وإن جاهروا بشرب الخمور وممارسة الزنى واللواط ، وبإمكان القارئ الكريم مشاهدة مقطع فيديو بصوت وصورة عبدالعزيز الريس كنت قد نشرته قبل بضعة أيّام في صفحتي على الفيسبوك وتويتر.

الدولة الفاطمية تحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف

يُجمع المؤرخون على أن الاحتفال بالمولد النبوي كان علنيا في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، لكنه أصبح قضية خلافية منذ عهد الخليفة المتوكل وتغوُّل نفود الحنابلة .

وقد أشهر الفاطميون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، كما احتفلوا بغيره من الموالد الدورية التي عُدت من مواسمها، وفي سنة 488 هـ (تحت خلافة المستعلي بالله) أمر الأفضل أمير الجيوش بدر الجمالي بإبطال الاحتفال بالموالد الأربعة وهي المولد النبوي ومولد الإمام علي ومولد السيدة فاطمة الزهراء ومولد الإمام الفاطمي آنذاك، حيث كانت الاحتفالات تقتصر على عمل الحلوى وتوزيع الصدقات، أما الاحتفال الرسمي فكان يتمثل في موكب قاضى القضاة حيث تُحمل صواني الأطعمة والحلوى.

وفي الدولة الأيوبية التي قضت على الدولة الفاطمية كان الملك مظفر الدين كوكبوري أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منظم في عهد السلطان صلاح الدين ، ، إذ كان يحتفل به احتفالاً كبيرًا في كل سنة ، وكان يصرف في الاحتفال الأموال الكثيرة ، والخيرات الكبيرة، حتى بلغت ثلاثمائة ألف دينار وذلك كل سنة، فيما كان يصل إليه من البلاد القريبة من أربيل مثل بغداد، والموصل عدد كبير من الفقهاء والصوفية والوعّاظ والشعراء ، ويستمر تواصلهم من شهر محرم إلى أوائل ربيع الأول.

وكان يُقام المولد سنويا في 8 ربيع الأول، وفي 12 ربيع الأول بسبب الاختلاف في تحديد يوم مولد النبي محمد، فإذا كان قبل المولد بيومين يتم إخراج الكثير من الإبل والبقر والأغنام وزفّها بالطبول والأناشيد ، حتى تصل إلى الميدان ، ويشرعون في ذبحها ويطبخونها، وفي صبيحة يوم المولد يجتمع الناس والأعيان والرؤساء وتنصب كرسي للوعظ ، ويجتمع الجنود في استعراضات عسكرية في ذلك النهار، وبعد ذلك تقام موائد الطعام ، وتكون موائد عامة تمتلئ بالطعام والخبز وشراب الرمّان والتين والمشمش .

يتميز الاحتفال بعيد المولد النبوي في اليمن بأنه يتم بصورة رسمية وعلنية بعد سقوط النظام الأوليغارشي العائلي الإقصائي الذي كان يستمد شرعيته من تكريس (الشوكانية الوهابيّة) كعقيدة سياسية من جهة ، كما أنه يتم في ظل عدوان سعودي وهّابي غاشم على اليمن أرضاً وشعباُ انقسم فيه السياسيون والمثقفون بين فريق يناصر العدوان ويرتزق منه ، وفريق كبير يناهض هذا العدوان ويسترخص التضحيات ويستحضر قيم ودروس التاريخ الوطنية والدينية في معارك الدفاع عن سيادة الوطن واستقلاله من جهة أخرى.

في هذا السياق يحاول أتباع الوهّابية وعملاء العدوان السعودي التشكيك بإحياء المولد النبوي ، والزعم بأنه “لا يجوز الاحتفال به “، وهو النقاش الذي يُرجعه البعض إلى بداية تغلغل الفكر الوهّابي الذي صار يناقش مواضيع وعادات اجتماعية بمفاهيم “البدعة والضلالة “.

فلماذا يُحرِّم الحنابلة الوهّابيون الاحتفال بمولد النبي؟ وهل هناك أي مانع شرعي يمنع الاحتفال بهذه المناسبة؟

يرى الكثير من الباحثين في الدراسات الإسلامية أن تحريم الاحتفال بالمولد النبوي مرتبط بمنطق متجذر لدى الحنابلة يقوم على تحريم الفرح بكل أشكاله، ذلك أن “التحريم ومنطق الخصومة مع الحياة اللذين يغلبان على العقل الحنبلي السلفي ” هو الذي يجعلهم يقفون هذه المواقف المصادمة لعادات الناس وأعرافهم، وما تعودوا عليه من مظاهر إنسانية جميلة يستحسن تشجيعها وتأييدها بدلا من الوقوف ضدها.

لقد اتخذ الناس من هذا اليوم عادة لإبداء الفرح الإنساني والاحتفاء بمناسبة دينية مهمة ، ومن المفروض ألا يتم التشدُّد في هذا الأمر وأن يترك الناس يفرحون كما يشاؤون ويستغلون هذه المناسبة لتبادل الزيارات العائلية والاستمتاع بالفرح والسرور والبهجة.

والثابت أنه لا يوجد سند شرعي لتحريم الاحتفال بذكرى المولد ، حيث احتفل المسلمون بعيد المولد النبوي الشريف على امتداد القرون السالفة من أجل إظهار وإبراز مكانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نفوس أمته وفي نفوس المسلمين والمسلمات ، انطلاقاً من الآية التي تقول : “وذكرهم بأيّام الله” (سورة ابراهيم ـ 5) ، حيث يرى القرطبي في تفسيره أن خير الأيام التي يمكن أن نُذكّر بها الناس هي ميلاد المصطفى وسيرته المطهرة.

وفي الوقت الذي يستدل فيه البعض بحديث نبوي يشير إلى عيدين هما الفطر والأضحى، يؤكد أخرون أن المقصود من ذلك الحديث ليس الحصر، لأن للمسلمين عدة أيام تعتبر بمثابة أعياد ، فيوم الجمعة عيد أسبوعي نحتفل به ونعظمه ، ورمضان أيضا يمكن اعتباره عيدا، وعاشوراء يعتبر عيدا ، بالإضافة إلى الأعياد الوطنية التي ترتبط معانيها ارتباطا كبيرا بالأعياد الدينية.

ومن بين الذين يؤيدون إحياء المولد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي، حيث قال: (الاحتفال بذكرى مولد رسول الله نشاط اجتماعي يُبتغي منه خير دينيّ، فهو كالمؤتمرات والندوات الدينية التي تعقد في هذا العصر، ولم تكن معروفة من قبل، ومن ثم لا ينطبق تعريف البدعة على الاحتفال بالمولد، كما لا ينطبق على الندوات والمؤتمرات الدينية، ولكن ينبغي أن تكون هذه الاحتفالات خالية من المنكرات).

وكذلك يؤيد الاحتفال بالمولد النبوي عدد كبير من علماء الدين وبضمنهم ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ الشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبدالله محمد حاتم والشيخ عمر بن حفيظ.

ويأتي في مقدمة المعارضين ابن تيمية والشاطبي ومحمد بن عبدالوهاب وابن القيم وتاج الدين الفاكهاني ومحمد إبراهيم آل الشيخ وعبدالعزيز بن باز ومحمد ناصر الدين الألباني ومحمد صالح بن عثيمين وصالح الفوزان وعبدالمجيد الزنداني ، وجميعهم من أتباع فقه الملوك الذي يُنكر على المسلمين والمسلمات إحياء المولد النبوي الشريف باعتباره ( بدعة وضلالة) ، بينما يوجب هذا الفقه الضال طاعة الملوك والحكام حتى وإن شربوا الخمر ومارسوا الزنى واللواط ، وجلدوا ظهور الناس ونهبوا أموالهم استنادا الى أحاديث أفتراها البخاري ومسلم على رسول الله ، الأمر الذي يحفزنا للتوجه نحو مزيد من المقاربة الموضوعية لمسار نشوء وتطور المذهب الملكي السُّني على نحو ما سنأتي اليه في الحلقة القادمة.

مقالات ذات صلة