سدّ النهضة الإثيوبي ونهجا الحكم.. هل سوف تشتعل معركة إثيوبية مصرية خلال الفترة القادمة؟

أعلنت جمهورية إثيوبيا يوم الأربعاء الماضي عن بدأ عملية ملء سد النهضة الكبير الذي تم إنشاؤه خلال التسع سنوات الماضية على ضفاف نهر النيل بالمياه. إن الموقع الاستراتيجي لنهر النيل الذي قامت على ضفافه العديد من الحضارات القديمة، ليس مخفيّاً عن أي شخص، فمنذ آلاف السنين، كانت التبادلات الاقتصادية لعشرات الملايين من الناس في دول السودان ومصر وإثيوبيا تعتمد بشكل كامل على تدفق هذا النهر العظيم.

وحول هذا السياق، ذكرت العديد من المصادر الإخبارية أنّ وزير المياه الإثيوبي أعلن قبل عدّة أيام بدء ملء سد النهضة. ولفتت تلك المصادر إلى أن مصر بدورها أعلنت أن ردّها على الإعلان الإثيوبي سيكون سياسيّاً، وقالت إنها طلبت من الحكومة الإثيوبية إيضاحاً عاجلاً. ورفض السودان أيّ إجراء أحادي بخصوص سدّ النهضة. وأشارت تلك المصادر إلى أنّ هذا الإعلان الإثيوبي يأتي بعد تعثّر الجولة الأخيرة من المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان، التي توسط فيها الاتحاد الإفريقي. ومن المتوقّع في هذه المرحلة أن تخزّن إثيوبيا 4.8 مليارات متر مكعب خلف السد، في البحيرة التي يفترض أن تسع 74 مليار متر مكعب حال اكتمال السد.

وعلى صعيد متصل، أعرب “محمد السباعي”، المتحدّث باسم وزارة الري والموارد المائية المصرية، أنّ الإجراء الذي ستتخذه مصر بعد إعلان وزارة الري الإثيوبية بدء ملء سد النهضة “سيكون سياسيا، وعبر وزارة الخارجية.” وأشار إلى أن مصر التزمت بما جاء في الاجتماع الأخير للمفاوضات التي استمرت لمدة أحد عشر يوماً بين مصر وإثيوبيا والسودان ، بحضور مراقبين دوليين، ورفعت التقرير النهائي إلى مكتب الاتحاد الإفريقي. وفي الخرطوم، اعتبرت وزارة الرّي السودانية بدء ملء سدّ النهضة إجراء أحادياً مرفوضاً.

الآن، ومع بدء عملية غمر سدّ النهضة الإثيوبي بالمياه، والتي سوف تستغرق ثلاث سنوات بدلاً من العشر سنوات التي طالبت بها مصر، فإن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر سوف تكون في خطر شديد، حيث إنّه من المتوقع أن يصل عدد السكان في هذا البلد الإفريقي إلى أكثر من 145 مليوناً في السنوات العشر القادمة وسيؤدي استغلال سدّ النهضة من قبل السلطات الأثيوبية إلى خسارة القاهرة حوالي 11 إلى 19 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً، ونتيجة لذلك، فإن حوالي 2 مليون مزارع مصري سوف يفقدون دخلهم من الزراعة.

فهم الأولويات بشكل صحيح.. العلاقة بين الاقتصاد والسياسة

بدأ بناء سد النهضة في عام 2011 عندما ثارت عدد من الشعوب العربية على الأنظمة الحاكمة والفاسدة، وفي ذلك الوقت خرجت الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن في مظاهرات احتجاجية ضد فساد وديكتاتورية الرؤساء الدائمين في بلدانهم وهذه الامر أدى إلى حدوث انتفاضات وسلسلة من الأزمات المترابطة، وكل هذا الاحداث ساعدت الإثيوبيين على فهم أولويات الحكم والبدء بتنفيذ تنمية اقتصادية بدلاً من الدخول في فوضى شعبية. ولقد ساعدت اليقظة والفهم التاريخي للحكام الإثيوبيين، للقادة الإثيوبيين الحاليين على الاستفادة من الفرصة الناشئة عن الصراع المصري السوداني والنزاعات الداخلية التي يعيش فيها هذين البلدين، إلى المضي قُدماً في بناء هذا السد الكبير على ضفاف نهر النيل.

إن المصائر المختلفة لهذه البلدان الثلاثة كشفت بوضوح كيف يمكن لقادة الدول أن يسلكوا مساراً لرفاهية شعوبهم من خلال الاستعانة بظروفهم التاريخية بشكل صحيح ومراعاة المصالح الوطنية. وفهموا جيداً أنه من خلال توحيد وتشكيل تحالفات على أساس المصالح المشتركة، سوف يتمكنون من تحقيق الكثير من المكاسب الاقتصادية والسياسية على المدى الطويل في عالم اليوم الفوضوي. لقد تمكنت إثيوبيا من كسب الدعم السياسي في مجلس الأمن من خلال الاستفادة من رغبة الصين القوية في أن تكون حاضرة ومؤثرة في إفريقيا.

وحول هذا السياق، كشفت العديد من التقارير أن الصين قدمت 650 مليون دولار كمساعدات في عام 2017 لبناء سد النهضة. كما وقعت الشركات الصينية عقوداً تزيد قيمتها عن 150 مليون دولار لبناء هذا السد وتشغيله. وقبل بضعة أشهر، أعلنت بكين أنها استثمرت حوالي 2 مليار دولار في شبكة الكهرباء في إثيوبيا. وتوضح هذه الأرقام أن موقف الصين لن يدعم مصر إذا تمت إحالة قضية سد النهضة إلى مجلس الأمن، خاصة وأن بكين تتطلع إلى تطوير مشاريعها واستثماراتها في إفريقيا عبر البوابات الإثيوبية.

الجدير بالذكر أن العلاقات الصينية الإفريقية مرت بالعديد من المراحل التاريخية المهمة التي رسخّت خلالها بكين من وجودها في القارة السمراء عبر بوابة الدعم والمساعدات الاقتصادية، وهو ما دفعها لإعادة النظر في استراتيجيتها الخارجية الإفريقية بما يؤهلها لمزيد من التوغل، وهو ما أشارت إليه بعض التقرير مؤخرا، حيث أكدت على أن العلاقات بين الصين وإفريقيا في الفترة الأخيرة شهدت إعادة هيكلة، من خلال إنشاء ثلاثة بنوك سياسية، بما يعتبر اتجاهًا جديدًا للصين، التي اهتمت بالتنمية الاقتصادية في القارة من حيث الاستثمارات والتجارة والاستيراد والتصدير، كبنك الصين للتنمية الزراعية وغيره، وكانت جميعها مملوكة للحكومات الإفريقية؛ لتمكينهم من توفير التمويل المستهدف، وفتحت تلك السياسة الجديدة الباب لإستراتيجية اقتصادية وتجارية.

حروب الوكالة.. تهميش الاقتصاد

في حين انخرطت مصر في نزاعات إقليمية عقيمة ومكلفة بالوكالة على مدى العقد الماضي وبالإضافة إلى المشكلات الداخلية المتزايدة التي تعاني منها، تمكنت إثيوبيا من تحقيق حلمها الكبير من خلال اتباع سياسة خارجية عقلانية تقوم على المصالح الوطنية وتلبية احتياجاتها الاقتصادية. وهذا الحلم يتمثل في أن تصبح أكبر منتج للكهرباء في القارة الأفريقية، والذي سوف يليها زيادة كبيرة في النمو الاقتصادي.

وفي خضم تنافس مصر تركيا داخل الأراضي الليبية، نيابة عن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وتهديد الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بشأن هجوم محتمل على مدينة “سرت” الليبية، فإن احتمال حدوث انهيار اقتصادي في مصر أكبر من أي وقت مضى. لقد دخلت القاهرة بتحريض من الرياض وأبو ظبي، في لعبة مهزومة مسبقًا ولن تستفيد منها فحسب، بل ستضرها أيضًا، مما يمنح إثيوبيا فرصة جيدة للعب في ظل خلافات مصر مع جيرانها وانغماس القاهرة في العديد في الأزمات الاقتصادية والسياسية المحلية المتنامية.

وهنا يمكن القول أن عقود من الحكم المختل، والافتقار إلى سياسة خارجية مستقلة دون مراعاة المصالح الوطنية، لم تحول مصر، التي كانت ذات يوم رائدة ومركزًا للتغيير في العالم العربي، إلى دولة هامشية في حاجة إلى المساعدة فحسب، ولكن أيضًا قامت بخلق العديد من التهديدات للحياة الحضارية والأمن الغذائي لشعبها.

الخلاصة

تعتمد كيفية فشل الدول إلى حد كبير على أفعالها. إن النظام الدولي، والبيئة الإقليمية، والجو السياسي الداخلي للدول مترابطة مع بعضها البعض، ومن خلال الفهم الصحيح للعلاقات بينها، من حيث الظروف التاريخية واللحظات الحاسمة، يمكن حدوث الأزدهار في بعض الدول. ويمكن أن يؤدّي تحويل الهوامش إلى نصّ، ودخول اللعبة الكبيرة بشكل غير عقلاني وإهدار الفرص والموارد دون النظر في فوائد التكلفة السياسية والاقتصادية والطموحات التي تتجاوز القوة والقدرة، قد يخلق لأيّ بلد العديد من المشكلات والمصاعب الكبيرة والتي لا يمكن تعويضها بسهولة.

وكيفية انتهاز هذه الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا لفرصة الاستفادة من نهر النيل هو انعكاس للأفكار التي تدور في أذهان النخب في هذه البلدان الثلاثة ونعلم أن مثل هذه الأمثلة يمكن العثور عليها على الأقل في التاريخ المعاصر للدول النامية. وعندما تتبع مجموعة من الدول طريق الازدهار من خلال الاعتراف بالحق والتوافق حول المصالح الوطنية، تبدأ مجموعة أخرى بالمضي قُدماً على طريق الدمار والفشل من خلال معالجة الهوامش والانخراط في التطلعات المستحيلة.

“الوقت التحليلي”

مقالات ذات صلة