ولايةُ الثقلين.. كمال المشروع الإلهي

محمد بن دريب الشريف

 

قرون متعاقبة على أمتنا الإسلامية مرت خلالها بأحداث عصيبة وشديدة الوطأة على واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وعاشت الغصص والاضطرابات والمآسي بكل أشكالها وتفاصيلها، إلا أن ذلك لمْ يدفعها للتفكيرِ بالدراسةِ الاستقرائية لحصر الأسباب والعوامل التي أحدثت ذلك الشرخ والصدع في اصطفاف الأمة ووحدة كلمتها والذي ما تزال آثارها مترسبة في حاضرة الأجيال جيل بعد جيل وما تزال نتائجُها شاخصةٌ وملموسةٌ في جيل القرن الواحد والعشرین بالخصوص.

 

ومن الطبيعي أن يكون جيل القرن الواحد والعشرین هو الأكثر فضولاً للبحث والتنقيب في أدبيات الإسلام عن ما هو المراد الإلهي من دعوة الإنسان إلى الإسلام والإيمان بالرسالة المحمدية وأيضا الأكثر تحفزاً بحسب الوسائل والإمكانات إلى دراسةِ واقع الغابرين والأجيال التي سبقته إلى الاعتراك والاحتراب وسفك الدماء والخلاف والصراع الذي كان على حساب الحضارة والتقدم والازدهار الفكري والاقتصادي والسياسي والعسكري للأمة ليستخلص من حالهم ما يستعين به على لملمةِ الجراح ولمِّ الشمل وبناء الإنسان ذلك البناء الذي أراده الله وارتضاه وأكد عليه في تنزيله ومن خلال نبيه سيد المرسلين .

 

واقعاً، ومما لا يختلف عليه اثنان أن مراد الله من إرسال نبيه وتنزيل وحيهِ لم يكن إطلاقا إيصال ألمسلمين إلى الحالات والمآلات التي وصلوا إليها، فالله أجلّ وأعزّ من أن يرسُم مساراً لإمةٍ من الأمم يؤدي بهم إلى ما تأباه الفطرةُ الإنسانية ويستقبحه العقل البشري ويرفضه الضمير الآدمي، وأنا في غنى عن ذكر بعض الشواهد لهذه الظواهر التي من المفترض أن كل مسلم يعرفها من خلال قراءته للتاريخ ولواقعه المعاش.

 

والمخيف أن مرتكزاتنا الثقافية ولربما العقائدية تفيد بأن ما عاشته الأمة الإسلامية منذ غياب شمس النبوة هو نتيجة طبيعية ومؤدى حتمي للاختلافات والتجاذبات الفطرية للإنسان ولا دخل للدین والشريعة به ولم تتضمن الرسالة الإلهية أي حلول لمعالجة مثل هذه الاختلالات والمشاكل الناجمة عن صراع الأهواء والطموح السلطوي للبشرية، وهذا -إن صح التعبير- يتضمن ويستبطن في حدِّ نفسه تجاوزاً وحيداً عن الإيمان المراد لله تعالى لأنه ينتقص الذات الإلهية ويضيف إليها العجز وعدم القدرة على توجيه الإنسان ورسم المسار الصحيح لبنائه وتقويمه.

 

لأن مما ينبغي الإيمان به كمقدمة للإيمان بوحدانية الذات الإلهية هو الإيمان والتسليم بتكاملية الرسالة الإلهية، وهذا هو المؤدى الحقيقي لشهادة «أن محمداً رسول الله» ولربما فهمت قريش هذا المؤدى للشهادة ودفعها ذلك إلى أن ترفض وبضرس قاطع الشهادة لمحمد بالنبوة وكمال المشروع الإلهي وكان مما قاله الله فيهم «إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا اللَّهُ يَسْتَكبرُونَ»

 

أي يستكبرون ويستعظمون تسليم مقاليد أمورهم وشؤونهم لله عبر من اصطفاه واختاره لهذه المهمة واجتباه لهذا المنصب التكليفي،،أما الشهادة اللسانية لله فقد أعطوه عشراً على لسان كبرائهم كما ورد في السيَّر وكتب التاريخ.

 

فمشكلة مشركي وكفار عهد الرسالة الذين أصبحوا سُبة الدهر حال تشخيصها الدقيق تتمثل في أنهم لم يؤمنوا بكمال المشروع الإلهي الذي أتى به محمد عليه وآله أفضل الصلاة والسلام، وهذا ما نحن عليه اليوم وكان عليه من سبقنا من الأجيال الإسلامية إلا من رحم الله، والفارق البسيط بيننا وبينهم أننا نستبطن ذلك ونجسده في أعمالنا وسلوكنا وتعاملنا مع الدين والتسليم للتوجيهات الربانية والقيادة المختارة بالنص القرآني والسُنَّة النبوية المطهرة، بل ذهبنا إلى أكثر من ذلك حين اعتدينا على النص الإلهي الذي تناول الولاية والخلافة للتقليل من شأنه وتحميله من التأويلات ما لا يحتمل أملاً في الخلاص من مواجهة الحقيقة التي تخالف أهواءنا وتتعارض مع تمايلاتنا النفسية، وهم أظهروا ذلك ورفضوا الانصياع والتسليم جهاراً نهاراً منذ أول وهلة .

إحدى اثنتين ولا ثالث لهما لحسم الجدل في هذه القضية، وهذا لمن يرى في نفسه الاستنكاف عن قبول هذا الطرح وبالمنطق نقول : إما أنّ الله تعالى أنزل إلى عباده عن طريق وحيه ونبيه مشروعاً متكامل الأركان والأسس ورسم مساراً كلياً وعاماً لبناء البشرية عن طريق قرآنه وهديه، وإما انه أهمل ذلك واكتفى منهم بالإيمان الفردي دون الاجتماعي والسياسي؟ لأن الأخيرين يترتب عليهما أمور كثيرة منها التوحيد السياسي الذي يتمثل في القيادة المختارة بالنص الإلهي والتسليم لها دونما حرج أو استكبار.

 

وإذا كانت الأولى فالسؤال المتبادر هو: أين هذا المشروع الإلهي المتكامل الذي يحتوي الإنسان وآدميته؟ وأين نتائجه ومؤداه وآثاره في الواقع المعاش لهذا الجيل وكل جيل إلى يوم السقيفة؟!

 

وإذا كانت الثانية فالسؤال: إن واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي بل وحتى الفردي يفيد بأنه لا تكاملية للمشروع الإلهي – الذي بین أیدینا الآن – في بناء الإنسان وصناعة حاضره ومستقبله وإلّا لكنا على حال أفضل من هذا الذي نعيشه ولكان واقعنا الحضاري على مستوى أفضل مما عليه الأمم الأخرى ولما أصبحنا سُبة الدهر ومحط ازدراء ومسخرة شعوب العالم التي تدين بالديانات المناوئة لديننا ومعتقدنا.

 

ربما مؤدى النتيجتين في النهاية واحد ولكن هناك شيئاً من التفصيل، إذ أن الثانية هي الأقرب إلى القبول عقلاً وفطرةً، فالحق أن مشروع الله في الأرض متكامل الأركان والأسس وواضح النتائج والثمرات ومما يشهد على ذلك قوله تعالى :

 

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾

 

﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِين َ﴾

 

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

 

وغيرها من الآيات التي تؤكد أنّ مشروع الله للإنسان متكامل من جهة وأنّ هدف الرسالة الإلهية في المقام الأول هو تكاملية الإنسان ورقيه والأخذ بيده إلى العيش الكريم والمقام الأسمى من جهة أخرى .

 

والمشروع الهادف إلى تكامل شيئ ما من جميع النواحي لا بد في المقام الأول أن يكون كاملاً شاملاً وإلّا لزمه الفشل والإخفاق في النتيجة ولا يمكن عقلاً أن يغفل صاحبه عما من شأنه الإخلال بمنظومة مشروع البنيان الذي يستهدف بناءه بشكل كلي وتكاملي – ولو في فترة متأخرة – بل يحرص على أن يؤسس مشروعاً جامعاً مانعاً تتوفر فيه كل مقومات وعناصر الكمال والجمال والقوة والمنعة لذلك البناء الذي يريد تشييده بالتصور الذي أعده ورتبه في مرحلة سابقة .

وإذا كان هذا من المسلمات لدى العقلاء وأهل النظر فلا شك أن المولى عزّ وجلّ من منطلق حكمته وعلمه وكمال تدبيره قد أرسل رسوله وأنزل وحيه برسالة جامعة مانعة تضمنت كل ما يحتاجه الإنسان وما يتطلبه للسير نحو الكمال على كل المستويات ولم يهمل أي صغيرة أو كبيرة من شؤون وأمور المسلمين « حتى أرش الخدش» إلا وأنزل بخصوصها ما تحتاجه من المعالجات والحلول وفي مقدمة ذلك شؤون الحكم والسلطة التي تعد المعضلة الأكبر والمشكلة الأبرز في تاريخ المسلمين والتي ما تزال تسيل من أجلها دماء الآلاف من المسلمين وإلى يومنا هذا،، بل إن العقل يقول إنه ينبغي أن تشغل قضية كهذه أولوية اهتمام أي مشرع أو واضع قانوني عاقل يريد من خلال وضعه تأسيس حلول جذرية ومعالجات حقيقة ونهائية لأمة من الأمم، فضلا عن المولى عزّ وجلّ ذي الكمال المطلق،،وما يؤسف له أن المسلمين يتعاطون مع قضية هامة ومفصلية في حياتهم وكأن الشريعة قد أهملتها وتركت لهم حق الحكم والفصل فيها، وهذا مع التأمل يلزم القول بنقص الشريعة وعدم استيفائيها أو استيعابها كل ما يحتاجه المسلمون لإصلاح أمور دينهم ودنياهم، إضافة إلى أنه يلزم منه الظلم والإجحاف بحق أمة دون أخرى وذلك عندما يأتي جيل ليؤلف حسب قواعد عقلائية عدة مبادئ وأسس ويجعل منها مرجعا دستوريا يتسلط على أساسه الحكام والأمراء على رقاب المسلمين جيلاً بعد آخر وإلى ما شاء الله، وهذا ما لا يعضده العقل ولا النقل ولا تتقبله الفطرة الايمانية .

 

ولا شك أن هنالك سؤالاً متبادراً موجهاً وقد آن أوان طرحه والإجابة عليه وهو: أين الكمال في الرسالة الإسلامية؟ إذ أنّ المستقرئ لتاريخ المسلمين يجد أنهم لم يصلوا في أي مرحلة من المراحل إلى أي مرتبة من مراتب الكمال بحسب المعايير الدنيوية والحضارية؟

 

وأين النص الإلهي المتضمن المعالجات الحقيقية والحلول النهائية لشؤون السلطة والحكم التي تعد في رأس الهرم بالنسبة لخلافات المسلمين وصراعاتهم؟

 

وفي سياق الإجابة على هذين السؤالين نستطيع القول إن علماء المسلمين شرَّقوا وغرَّبوا في العلوم العقلية والنقلية وكان هدف البعض منهم وخصوصا الملازمين للأمراء والحكام استخراج أكثر من نص للخروج من الحرج الذي وقعوا وأوقعوا الأمة فيه وأيضا لخلط الأوراق والتمويه على النص الواضح في دلالته وإشارته الى الحلول الجذرية لهذه المعضلة التي بُليت بها الأمة لأن وضع اليد على النصوص الواضحة والجلية في هذا الشأن قد ينتهي بصاحبه إلى السجن على أقل التقادير ماضياً وحاضراً على مستوى بعض البلدان .

 

ومن النظريات الإسلامية المشهورة التي أعتُمِدت على أساس النص القرآني وعلى أساسها تربعة العروش وقادة الجيوش بنو أمية وبنو العباس وغيرهم من الحكام والأمراء إلى يوم الناس هذه هي « نظرية الشورى» التي ما تزال معتمدة ومقرة لدى جمهور علماء المسلمين ومفكريهم والتعامل معها كالتعامل مع المسلَّمات، والحال أن هذه النظرية برغم مما لها من مكانة لدى الساسة والعلماء والمفكرين الإسلاميين إلّا أنها نظرية غير تامة والمراد الحقيقي لها غير متبلور ولا يمكن الاستدلال عليها لا عقلاً ولانقلاً وإن كان هناك تشبثات إلّا أنّ هذه التشبثات لا تساعد في الوصول إلى المطلوب لأن النص الذي قامت على ضوئه حُمّل ما لا يحتمل ولا يُطيق ولمْ تكن إطلاقاً ناجحة في أي فترة من الفترات ولمْ تحسم الخلاف بين طوائف المسلمين بالنسبة إلى الحكومة وإدارة شؤون المسلمين، بل زادت من حدة الخلاف والنزاع وكانت عاملاً من عوامل التفرقة والصراع السلطوي هذا بغض النظر عن الإشكالات العقدية والفكرية والسياسة الواردة على هذه النظرية، مما يدل على أن نظرية الشورى جيئ بها في عرض نظرية الولاية الإلهية التي نص عليها القرآن وأكدها الرسول عليه وآله الصلاة والسلام .

 

وعليه تبقى نظرية الولاية الإلهية هي الحل أو الجواب على التساؤل الذي يتبادر إلى ذهن كل مسلم عن وجهة نظر الشارع المقدس – إن صح التعبير- حول مسألة الحكم والإمامة وتولي أمور المسلمين .

 

فبرغم ما لهذه النظرية من الأدلة والبراهين القاطعة على صحتها من الكتاب والسنة وما يُلمس فيها من القدرة والاقتدار على حسم النزاع الإسلامي- الإسلامي إلّا أنها ما تزال نظرية مخذولة ومغدورة ومحاربة عند أهلها وأصحابها، فضلا عن أعدائها.

 

فمن حيث الاستدلال لا يوجد لأي نظرية بل لأي حكم أو واقعة أو حدث في تاريخ المسلمين من الأدلة والشواهد كما لنظرية الولاية الإلهية المتمثلة في التمسك بالثقلين القرآن وعترة النبي عليه وآله أفضل الصلاة والسلام بل إن الولاية الإلهية احتلت المرتبة الأعلى من حيث كثرة النصوص القرآنية والنبوية الواردة بشأنها، وإن كان البعض من هذه النصوص غير صريح في الدلالة عليها إلّا أنه اعتضد بقرائن تفيد في المطلوب وتساعد عليه وتنكر ما دونه.

والحاصل أن كمال المشروع الإلهي لا يمكن أن يتجسد في حياة الأمة إلا من خلال نظرية الولاية الإلهية المتمثلة في « الثقلين « كتاب الله، وعترة المصطفى المختار ولا حل ولا علاج لمشاكل المسلمين ونزاعاتهم وخلافهم إلا من خلال التوحيد السياسي المتمثل في تطبيق هذه النظرية والرجوع إليها كنظرية إسلامية أقرها الشرع وحكم بها على من عليه امضاؤها.

 

وهذا ما أكدت عليه الآيات والروايات، وقد أشارت كثير من النصوص إلى أنّ الرسالة الإلهية قد كَمُلت وتَمت داعية إلى تكميلها العملي وتطبيقها وتجسيدها وفرضها في واقع وحياة المسلمين .

 

ومما يشير إلى أن كمال الرسالة الإلهية هو ولاية الثقلين قوله تعالى :

 

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا﴾

 

فالمستفاد من هذا النص القرآني أنّ الرسالة كاملة والمشروع الإلهي لبناء الإنسان تام الأركان والأسس بقوله سبحانه ‹ أكملت وأتممت ‹ ولكن بقرينة واقعنا وواقع من قبلنا من المسلمين نجد أنه لا كمال فيما تعبدنا الله به، إذ أن هنالك ثغرة ما تزال مفتوحة على إثرها وقع المسلمون في فخ الصراعات والاحتراب ونتج عنها الفرقة والتشرذم والذل والخذلان، وتلك الثغرة هي مسألة الحكم والسلطة التي بحسب السائد من مرتكزاتنا العقائدية أنّ المولى لمْ ينص ويحسم النزاع فيها برغم أنه يقول لنا إنه أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة فبين واقعنا العملي وبين الآية الكريمة تناقض وتضاد، إذ أنّ الآية تؤكد تكاملية مشروع الله وواقعنا المعاش ينفي هذا الكمال !!

 

وأيضا قوله : ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾

 

نجد تناقضاً واضحاً وصريحاً بين واقعنا وهذا النص، إذ نعتقد بحسب نظرية الشورى وغيرها من النظريات التي نجسدها في واقعنا السياسي وندين الله بتطبيقها أننا ندين الله بالدين الذي ارتضاه غير ملتفتين إلى أنّ من كمال مشروع الله ودينه هو إعزاز الأمة ونصرها وتأييدها وتسديد خطاها نحو النجاح والصلاح،، فشتان بين واقعنا وبين واقع الأمة الغالبة المقصودة في الآية الكريمة !!

 

والواقع أنّ هنالك خللاً إما في المشروع الإلهي من حيث عدم استجماعه الحلول التامة لكل مشاكلنا وإهماله بعضها ليُحكّم الإنسان مرتكزاته العقلائية فيها، وإما أنه استجمع وشمل والخلل إنما هو في عدم وقوفنا على حكم المولى بخصوصها، أو وقوفنا عليها والخلل عدم قدرتنا على فهمها واستيعاب المطلوب منها، أو وقوفنا عليها وفهمها والخلل في عدم استجابتنا وقبولنا لها من حيث التطبيق والعمل بمؤداها.

 

أيضا قول المصطفى ( لن تضلوا بعدي أبدا ) وهنا ضمير جمعي مما يدل على أن الضلال المقصود هو الضلال الاجتماعي وليس الفردي، وبحسب الفلسفة الاجتماعية فإن أخطر ضلال يصيب المجتمعات هو ضلال الحكمة وضياعها وعدم توفق المجتمع لوضع المعايير الصحيحة لمن يقودها ويسوسها، أي الضلال بحسب السلطة والحكم لا غيره من الضلال المجتمعي .

ومما يجب الالتفات إليه في هذا السياق أن الضلال في ظل وجود القرآن مستبعد جداً، ولن تضلّ أمة فيها القرآن كتاب الله، فلماذا الرسول يحتمل الضّلال في أمته ويدعو بكتاب يكتبه لها لئلا تضل من بعده؟!

 

والجواب أنّ القرآن هو كتاب الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنما هنالك ما يمكن عمله للاستفادة من تمام نعمة القرآن على الأمة لتكون بمعزل عن مهاوي الضلال، وهو تطبيق الولاية الإلهية المنصوص عليها في القرآن والسنة وتولي من نصت عليه الآيات والروايات وشخصّهُ النبي الأكرم وحث على ملازمته والإيمان بإمامته وولايته وقرنه بالقرآن باعتباره ترجمانه ونموذج الإنسان المثالي فيه ليسّهل للإنسانية عملية الوصول إلى المراتب الكمالية من خلال اكتساب المثل العليا من القرآن وكذلك الاقتداء والتأسي بالإنسان الكامل الجامع لهذه الصفات والكمالات الموجود بين ظهرانيها.

 

والنتيجة أن رفع التناقض بين النصوص المطهرة وبين واقعنا لا يمكن أن يتم إلا من خلال تطبيق نظرية الولاية الإلهية المتمثلة في التمسك بالثقلين معاً كما أوصى بذلك حامل الرسالة ومقرر الشريعة، وهي النظرية التي لمْ يسبق لها أن طُبقت ولا يمكن بأي حال أن يتحقق الواقع الحضاري المنشود للأمة الإسلامية إلا من خلال تطبيقها وفرضها لأنها النظرية السياسية الوحيدة في الإسلام، وأيضا لا يمكن بأي حال أن تتغلب الأمة على مشاكلها وتقوِّم اعوجاجها وتصلح ذات بينها إلّا بالرجوع إلى التمسك القوي والولاء الصادق لمن أُمِرت بالتمسك بهِ والولاء لهُ لأن كمال المشروع الإلهي الذي بإمكان البشرية الاستفادة منه وجني ثماره والتنعم بمكنون أسراره متقوم على هذه الولاية والطاعة والاتباع ..

مقالات ذات صلة