موقف الدين من المُنْبَطِحين المُطَبِّعين

العلامة / عدنان الجنيد

 

السديس وتلاعبه بالنصوص :

 

أما قول السديس : ” وعامل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يهود خيبر على الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم… ”

 

قلت : لاحظ كيف يحاول السديس أن يوهم الناس بما هكذا فحواه : أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من سماحته وأخلاقه مع الذين يدينون بغير دينه قد عاملهم على الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم…

وذلك كي يتسنى له إقناع الناس بجواز التصالح والتعامل مع الصهاينة اقتداءً برسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – الذي تعامل مع يهود خيبر… إلخ !!

 

هكذا يتلاعب بمعاني النصوص ويجتزئها دون أن يذكر السبب الذي جعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يعطي يهود خيبر الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم، ودون أن يذكر أن يهود خيبر هم الذين طلبوا بقاءهم بأرض خيبر مقابل أن يصلحوا الأرض ويزرعوها وأن طلبهم ذلك كان بعد حرب..

 

فهو لم يذكر ذلك ولم يبين ما هنالك وذلك كي يحقق غرضه ومراده من التطبيع !!..

 

إن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يا سديس – لم يتعامل مع اليهود إلا بعد أن دارت رحى الحرب بينه وبينهم، وإليك بيان ذلك : فبعد أن فرغ – صلى الله عليه وآله وسلم – من صلح الحديبية عزم على إنهاء بؤرة الخطر والتآمر اليهودي في خيبر التي كانت مكاناً لجاليات بني قريظة وبني النضير بما فيهم أشراف بني النضير، فاتفق جميعهم لأخذ الثأر من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ولهذا صرفوا الأموال في تحريض قريش والقبائل المناوئة كغطفان ضد النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بل وأخذوا يخططون في قتله… المهم أصبحت خيبر آخر معقل من معاقل اليهود، ووكراً للمؤامرات على الإسلام والمسلمين،

 

فلم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من بد في غزوهم إلى عقر دارهم، فخرج إليهم في محرم في بداية السنة السابعة للهجرة (1)، وخرج و معه ألف وأربعمائة من أصحابه وهم عدد من حضر معه الحديبية (2)، بينما عدد المقاتلين من اليهود في خيبر قيل عشرون ألفاً (3)،وقيل كانوا عشرة آلاف على أقل تقدير (4)،فحاربهم النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد أن دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله (5)، وقيل على أن يعطوا الجزية وترك المعاداة لكنهم أبوا (6)

 

بعدها حاصرهم النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وسقطت حصونهم الواحد تلو الآخر بعد مصرع قادة اليهود، ولهذا قُتِلَ من اليهود ثلاثة وتسعون مقاتلاً(7) ولمّا رأى اليهود انهيار حصونهم وقتل رجالهم وحصول الفتح لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – سألوا النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أن يبقيهم في أرض خيبر مقابل إصلاح الأرض وأمر الزراعة، حيث كانوا أرباب النخل وأهل المعرفة بها، فأبقاهم النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فيها يزرعون ولهم النصف، على أن يخرجهم المسلمون منها متى شاؤوا.

 

وانظر أي كتاب في السيرة تعرف ذلك، ولقد غنم المسلمون في خيبر غنائم طائلة، وكانت خيبر بعد التخميس لأهل الحديبية من شهد خيبر منهم ومن غاب عنها (8)..

ومما مرّ آنفاً يتضح جلياً لكل ذي لُب أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ما أبقى اليهود على أرض خيبر ( التي أصبحت غنيمة للمسلمين ) إلا مقابل أن يزرعوا، ويكون لهم الشطر مما يخرج من الزروع والثمار، يعني أصبح يهود خيبر كعُمّال يعملون تحت إمرة رسول الله – صلى الله عليه وآله – ليس لهم أي قرار، ولا يملكون أي شيء إلا نصف مما يخرج من الثمار مقابل ما يزرعونه…

 

وعليه تكون الرواية التي ذكرها السديس عليه وليست له…

 

هذا ولتعلم بأن معركة النبي مع يهود خيبر وحصاره لهم، ثم طلبهم مصالحته بعد هزيمتهم نستفيد منها درساً فحواه أنه يجب علينا كمسلمين التصدي لكل من يتآمر علينا، ومحاربة كل من يريد قتلنا..

 

فكيف بعد هذا يأتي السديس ليمهد للتطبيع مع اليهود والصهاينة وهم كل يوم يقتلون إخواننا في فلسطين، ويحتلون الأرض، ويهتكون العرض، ويرتكبون أبشع المجازر في حقهم ؟!..

 

* الجار اليهودي :

 

وقال السديس – أيضاً – ما نصه : ” وأحسن – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى جاره اليهودي مما كان سبباً في إسلامه “.

 

أقول : إن السديس أتى بمعنى الرواية المتداولة عند عوام الناس، وذكر خلاصتها، وهي قطعاً مختلقة بلا شك، وإليك الرواية أو القصة المكذوبة : ” إن يهودياً كان يضع القمامة على باب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كل يوم، فيخرج النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ويزيح القمامة وينطلق، إلى أن جاء يوم لم يجد فيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – القمامة، فسأل عن اليهودي، فأخبره الناس بأنه مريض، فزاره النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فتفاجأ اليهودي وأسلم “.

إن هذه القصة ليس لها أصل، وليس لها ذكر في جميع الكتب الحديثية لأهل السنة، لا في الصحاح ولا في السنن والمعاجم، ولا في كتب السيرة والتواريخ، ولم يكن للنبي

 

– صلى الله عليه وآله وسلم – جار يهودي في مكة، بل لم يسكن أي يهودي في مكة، فضلاً عن أن يكون جاراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !!

 

نعم وردت رواية ضعيفة جداً، وهي من مرويات ابن السني “من أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عاد جاره اليهودي في مرضه… إلخ (9).

 

لكن ليس فيها (أن اليهودي كان يضع القمامة في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيها أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – كان يحسن إليه)..

 

ناهيك عن أن رواية ابن السني ضعيفة – كما علمت – بل ومروياته غير معتمدة عند أهل السنة والجماعة…

 

وحتى اليهود الذين كانوا في المدينة نجد أن منازلهم كانت في ضواحي المدينة، ثم من سيتجرأ على أن يضع القمامة في طريق رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كل يوم؟!..

 

ومعلوم أنه -صلى الله عليه وآله وسلم – بعد الهجرة أصبح في منعة، ناهيك عن أن الصحابة كانوا معه وملازمين له في الحضر والسفر..

*وأما رواية البخاري التي نصها : ” كان غلام يهودي يخدم النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فمرض فأتاه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له : أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال : أطع أبا القاسم، فأسلم… “.

 

قلت : لم نعثر في جميع كتب السيرة على أن هناك غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم..

كذلك ابن حجر عند شرحه في الفتح (10) لهذا الحديث، قال: إنه لم يقف في شيء من الطرق الموصولة على تسميته، أي (هذا الغلام اليهودي)..

 

قلت : وهذا اعتراف من ابن حجر نفسه بأنه لم يقف في شيء من الطرق الموصولة على اسم هذا الغلام اليهودي، فلو كانت الرواية صحيحة، لما كان سيخفى اسم هذا الغلام اليهودي، ولا اسم والده!!..

 

وأما من يذهبون إلى القول: إن اسم الغلام اليهودي (عبدالقدوس)، فنقول لهم : هاتوا روايةً تثبت ذلك، وقطعاً لن يجدوها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا..

 

ثم ماهي الأسباب التي انتهت بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – لقبول خدمته وهو يهودي كافر برسالته – صلى الله عليه وآله وسلم – في حين أن أبناء المهاجرين والأنصار يتمنون أن ينالوا الشرف في خدمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

الهوامش:

 

(1) ” تأريخ الطبري ” [2 / 297 – 298].

 

(2) ” المغازي ” للواقدي [2 / 689].

 

(3) ” تأريخ اليعقوبي ” [2 / 56].

 

(4) ” المغازي ” للواقدي [2 / 634 – 640].

 

(5) ” صحيح البخاري ” [5 / 171].

 

(6) ” الخرائج ” للراوندي ص160.

 

(7) ” المغازي ” للواقدي [2 / 700]، و” السيرة النبوية ” لابن هشام [3 / 357 – 358].

 

(8) ” السيرة النبوية ” لابن هشام [3 / 364].

 

(9) وهناك رواية أخرى تنص على زيارة النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم -لجاره اليهودي ثم أسلم، رواه عبدالرزاق في مصنفه، وهي أيضاً ضعيفة جداً عند علماء أهل السنة والجماعة.

 

(10) ” فتح الباري ” لابن حجر [3 / 221].

مقالات ذات صلة