وعد بلفور : وعد الحرب بالحرب وعصر الزوال

مقالات | 2 نوفمبر | مأرب برس :

صلاح الداودي – منسق شبكة باب المغاربة للدراسات الاستراتيجية :

على مشارف مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد مئة عام من إتفاقية سايكس-بيكو، يبدو أن مئوية وعد بلفور هي العلامة الفارقة الأكثر كثافة من حيث التعبير عن عمق ما حدث سنة 1917، وما سبقه وما تلاه.

هي نفسها المئوية التي حدّدت أشكال الصراع والمتغيّرات في المنطقة، بعدما أدخلت على هذا العالم جسمًا عدوانيًا قاتلًا غريبًا وغير قابل للحياة سميّ “إسرائيل”. وهي المئوية التي أدخلت العالم كل في صراع كبير وقاتل متعدد الوجوه ضد ومع وعلى هذا الكيان المستخلق، بحيث اتّسم القرن الموالي لسنة 1917 وحتى 2017 بقرن الأسرلة والصهينة سلبًا، اذا لم نقل سلبًا أيضًا بأنه عصر الكيان الإسرائيلي أو عصر الإحتلال الصهيوني الاغتصابي، وعصر المواجهة العربية والإسلامية والأممية لهذا الكيان وعصر زواله.

على هذا الخط وضمن هذا السياق، خطَّ تصريح بلفور بالذات، دارت أهم الأحداث وأخطر الإستراتيجيات وأكثرها تعقيدًا لزرع هذا الكيان الإسرائيلي في قلب أمّتنا والعالم بأسره. إنه وعدُ حرب ووعدٌ بالحرب، إنه وعدُ الحرب بالحرب. من الحرب جاء وبالحرب تواصل.. مئة عام وسيزول بالحرب وغير الحرب.

كان التأسيس السياسي الحديث لدولة يهودية مستقلة ذاتيًا تهجّر الفلسطينيين وتجرّدهم من أرضهم ومن ممتلكاتهم وتحلّ محلهم وتصنع تاريخًا جديدًا الهدف. هدف الدولة ذلك أتى في وثائق المكتب العربي ومذكرة 1917-12-1 ونقرأه في كتاب “الصهيونية ومستقبل اليهود” (لندن 1916).

حينها، غصّت الصحافة الفلسطينية وغيرها في المنطقة بتحليل حركة البارونات الصهاينة وحركة أموالهم وثرواتهم. وأرسل مدير الاستخبارات البريطانية تعليماته إلى كلايتون رئيس المكتب العربي في القاهرة يوم 1916-11-21 يطلب منه التدخل لدى اصدقائه العرب بمن فيهم الشريف حسين لتوجيه تحذير خطير وشخصي بعدم الخوض في موضوع الخطر الصهيوني لأنه “سيثير القوى الحيادية الآن، والتي لو أثيرت كانت كافية لتحطيم الآمال”.

ومضت سياسة سايكس الخارجية تقود البريطانيين أنصار الصهيونية وعلى رأسهم هو شخصيًا وتتظاهر بدعم العرب ضد العثمانيين اعتمادًا على “أسطورة إحياء الشرق الذي سيكون فيه مكان يتّسع للقوميتين العربية واليهودية معا”. قدّم هذا الأخير (مايك سايكس) إلى المشرق العربي في ربيع عام 1917 “بحجّة دراسة الوضع القائم ليضمن قبول الزعامة العربية لكلّ الخطط البريطانية في الشرق ولتهيئة الجو لبناء علاقات عربية – يهودية.

وقد بحث سايكس مع لجنة من السوريين في مصر أمورًا تتعلّق بالأماني العربية وأبلغهم أن أقصى ما يطلبه الصهاينة هو تنظيم فلسطين على أساس “نظام الملة العثماني”، وأن يعطوا حكمًا ذاتيًا كسائر الملل. ردّ الزعماء السوريين كان أن “العرب مسلمون أم مسيحيون كانوا، هم على استعداد لمقاومة بسط السيطرة اليهودية على فلسطين حتى آخر نفس (برقية سايكس إلى الخارجية في 1917-4-13 رقم  .F .0.371/3053/88934/84173F). (أنظر بحث د. خيرية قاسمية أستاذة التاريخ المعاصر في كلية الآداب- جامعة دمشق. المجلة التاريخية المغربية، السنة العاشرة، العدد 30/29 جويلية/تموز 1983، تونس. بحوث المؤتمر الخامس للجنة  العالمية للدراسات ما قبل العهد العثماني والفترة العثمانية: الولايات العربية ومصادر وثائق ها في العهد العثماني).

 

في تلك الأثناء كلها أي ما بين 1908 و1911 وما بين 1914 و1914،  نشطت موجة كبيرة معادية للصهيونية فكرًا وسياسة من خلال الصحف وعلى الأرض وموجة كبرى من تأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب لمقاومة الصهيونية. وعلى الرغم من أن فلسطين لم تكن من بين مباحث سايكس مع الحسين في جدة، إلّا أنه حثّ الحكومة البريطانية مباشرة إثر عودته على إصدار تصريح التعاطف معها.

“وحين بلغت الصهيونية غاية مساعيها بتصريح بلفور كانت الظروف قد أجبرت العرب أن يلتزموا بتحالف مع نفس الدولة صاحبة التصريح (هوراني، “الحقيقة العربية في العهد اللبرالي، 1939-1798، اوكسفورد)”.  واستطاعت المناورات البريطانية، تضيف الدكتورة خيرية قاسمية أن تحول دون فقدان حسن النية لدى العرب، وبدّدت تصريحاتها الشكوك التي أثارتها اتفاقية سايكس بيكو وتصريح بلفور وحالت دون توقف الإسهام العربي في الثورة، فاستُقبلت الجيوش البريطانية بالترحيب بوصفها جيوشها للتحرير.

كما أن موقف العرب أسهم في نجاح تلك الجيوش، ودخل اللنبي القدس في 1917-2-11 بعد أقلّ من ستة أسابيع من إصدار تصريح بلفور. وأخذت المعارضة العربية للسياستين الصهيونية والبريطانية اتجاهًا جديدًا بعد أن خوّل الاحتلال العسكري بريطانيا أن تفعل ما تشاء في بلد محتل”. (المصدر السابق نفسه). وهكذا بدأ  الصراع ضد الصهيونية، أو تواصل بالأحرى، انطلاقًا من جذوره الأولى الموجودة أصلًا في تلك الفترة وبصفة مبكّرة قياسًا على ما بعد سنة 1947 أي عند التصويت على تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة وما بعد سنة 1948 حين أعلن الصهاينة ما أسموه “استقلال” ما يسمى “دولة إسرائيل” “الوطن القومي لليهود” غير القابلة للوجود والاعتراف وغير القابل للبقاء والاستمرار.

هنالك إذن طواف من “موطن لليهود” إلى “مدينة إسرائيل” إلى “وطن قومي لليهود” إلى “دولة إسرائيل”. لم تكن “إسرائيل” بتاتًا بعد مئة عام على وعد بلفور وكل ما وقع خلال هذا القرن، “من أعمال الله الجيدة” كما يدّعون، ولم يكن “مجانين الله” الصهاينة أدعياء الحق المقدس سوى أكبر شرّ جذري على الإطلاق، أصبح حملًا ثقيلًا على البشرية جمعاء من لحظة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس وحتى أحداث المسجد الأقصى الأخيرة مرورًا بكل الثورات والانتفاضات الفلسطينية وكل انتصارات المقاومة، ووصولًا حتى انتصارات محور المقاومة حاليًا وما سوف يليها.

مقالات ذات صلة