سايكس بيكو في ذكراها المئوية

عبد الباري عطوان

تمر اليوم الذكرى المئة لاتفاقات سايكس بيكو التي قسمت إرث الدولة العثمانية في المشرق العربي إلى عدة دول وكيانات، تم وضعها تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني، والتمهيد لخلق دولة اليهود في فلسطين، ومن المؤلم أننا، وفي ظل الوضع الراهن الذي تعيشه المنطقة حروبا، وتفتيتا، وصراعات طائفية، وأخرى عرقية، بدأنا نترحم على هذه الاتفاقات التي عارضناها بقوة، في إطار حنيننا للوحدة العربية، لأن معظم المؤشرات تؤكد أن الشيء الذي يسود منطقتنا، يمكن أن يتحول إلى الأسوأ.

جميع الايديولوجيات التي برزت طوال المئة عام الماضية، وتجاوزت الدولة القُطرية لمصلحة الوحدة الشاملة، وضعت هذه الوحدة، وتحرير فلسطين، على قمة أولوياتها، ولكنها فشلت في تحقيق أي من الهدفين، سواء كانت قومية عروبية، أو اشتراكية أممية، أو إسلامية بشقيها المعتدل والجهادي.

نعرف الماضي جيدا بكل احباطاته، وخيباته، وحروبه، وانقلاباته العسكرية، والديكتاتوريات التي تحكمت بالمنطقة تحت مسميات عديدة، أبرزها الحرية، والاستقلال، والسيادة الوطنية، وعندما أردنا التخلص منها وإرثها القمعي العميق، وجدنا أنفسنا امام مخطط جديد، لإعادة سايكس بيكو في صورة معتدلة للأسوأ، تقوم على أساس إعادة رسم الحدود من جديد، حسب الاعتبارات الطائفية والعرقية، والقبيلة، الأمر الذي قد يؤسس لدولة وكيانات ضعيفة، متصارعة فيما بينها على الأرض، ما فوقها وما تحتها.

***

بعد ن تهاوت الديكتاتوريات تحت ثورات ما يسمى بـ”الربيع العربي”، الواحدة تلو الأخرى، حدث فراغ سياسي كبير ملأته الحروب الطائفية والأهلية، وانهارت المجتمعات، وتبخرت قيم التعايش، وذابت كل الأحلام بالديمقراطية والحكم الرشيد.

سورية تشهد حربا طاحنة، والعراق أصبح كيانات متعددة بهويات طائفية، أو عرقية، ومصر في حالة انعدام وزن، وقيادتها تتخبط، والجزائر تعيش أزمة حكم وقيادة، واليمن منقسم بين مؤيد للتدخل الخارجي السعودي، أو معارض له، وبين من يريد الانفصال ومن يعارضه، أما ليبيا، فباتت بثلاث رؤوس، وثلاث حكومات، وعشرات الميليشيات، والسودان انفصل عن مصر ليتحول إلى دولتين، وربما إلى ثلاث، أو أربع في المستقبل المنظور، والمغرب مهددة بحرب انفصالية.

الأكراد الذين ظلمتهم اتفاقات سايكس بيكو، والتحالف بين مصطفى اتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، والغرب المنتصر في الحرب العالمية الاولى، ربما يخرجون الفائز الأكبر، وربما تأتي الألفية الثانية لاتفاقات سايكس بيكو لتحقيق حلمهم التاريخي في دولة مستقلة، فالغرب يريد استغلال الظرف الراهن من التفكك الذي تعيشه المنطقة، لإصلاح ما يعتبرونه خطأهم التاريخي بحقهم، ولا نستبعد أن يستخدم الغرب كأحد الأدوات الرئيسية في رسم الحدود الجديدة، خاصة في سورية والعراق وتركيا.

التدخل العسكري والسياسي الأجنبي، خاصة في أمريكا وحلفائها الأوروبيين لعب، ويلعب، الدور الرئيس في وصول المنطقة إلى هذا الوضع الدموي المرعب، وبسوء قصد، وفي إطار خطة محكمة رسم عناوينها الرئيسية الفلاسفة اليهود حلفاء إسرائيل، ابتداءا من برنارد لويس، ومرورا ببول ولفوفيتش، وريتشارد بيرل، وانتهاء ببرنارد هنري ليفي، “مفبرك” ثورة “الناتو” الليبية، مع صديقه الآخر نيكولا ساركوزي.

فشل الانتفاضات الشعبية العربية في تقديم البديل الأفضل لحكم الديكتاتوريات العربية، لا يعني العودة إلى هذه الديكتاتوريات التي سقطت، أو الاحتفاظ بالحالية منها، وإنما باستمرار الضغوط من أجل الاصلاح باشكاله كافة، ويجب أن تعرف جميع الأنظمة العربية الحاكمة أنها تعيش ازمة شرعية، وأن عليها أن تكسب دعم وتأييد وثقة شعوبها، من خلال الاعتراف بأن أدواتها القديمة في الحكم لم تعد صالحة، ولا بديل أمامها غير حكم القانون، والعدالة الاجتماعية، والحريات السياسية، فعالم تحكمه ثورة وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن السيطرة عليه بالبوليس السري، والقمع، واساليب الرقابة والحجب، والا فالانتفاضة قادمة لا ريب فيها.

انخفاض اسعار النفط سيؤدي إلى انتهاء ديكتاتوريته، وانطلاق ثورة تصحيحية كبيرة في المنطقة العربية، لأنه سيحرم معظم الأنظمة التي استخدمته، وارصدته من أقوى أسلحتها في الترويض للطموحات التحريرية والتحديثية الوطنية العربية، وسيعيد العرب الى وعيهم وتواضعهم وقيمهم الحقيقية، لأن الاعتماد على النفط سواء من قبل دولة، أو دول جواره، أحدث حالة من أحلام اليقظة الكاذبة للجانبين، وعطل مسيرتها في التطور نحو امتلاك مشاريع القوة الحقيقية بفروعها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية.

في المئة عام الماضية دخلت الخزائن العربية عشرات التريليونات من الدولارات بمقاييس اليوم، كلها او معظمها، ذهبت هباء، ولم تترك أي أثر غير السمعة السيئة، والاتهامات بالغباء، والإسراف، والبذخ، والمتع الحسية.

المخطط الجديد لتعديلات سايكس بيكو الثانية يتم طرحه من خلال عناوين متعددة، مثل اللامركزية، والفيدرالية، والكونفدرالية، والدول الإثنية، والطائفية، كبديل لحالة “اللاتعايش” السائدة حاليا، ومن المؤلم أن البعض يرى فيها طرحا وجيها، ويضرب أمثلة عديدة في هذا المضمار، مثل سويسرا وبلجيكا، وحتى أمريكا نفسها، وينسى هذا البعض، اننا نحتاج إلى قرن، أو اثنين، حتى نقترب من تطور هذه الدول، لأن نصبح مثلها.

رغم هذه الصورة القاتمة، هناك أمل بالصحوة والتغيير، وتحقيق النهضة التي تطمح إليها أمتنا، فهذه أمة لها عقيدة قوية، وتراث مشرف، وجيل واعد من الشباب، وقد يأتي الخير من باطن الشر.. والأيام بيننا.

نقلا عن صحيفة رأي اليوم

مقالات ذات صلة