اقتصاديات الحج والعمرة والاحتكار السعودي

 

مقالات | 7 سبتمبر | مأرب برس :

د.طارق ليساوي

من تابع خطبة عرفات لهذه السنة، وما أعقبها من جدل، لاسيما بوسائط التواصل الاجتماعي، حول دور الحكومة السعودية في الإشراف على إدارة و رعاية شؤون الحجيج، والمكاسب المالية والمعنوية التي تحصل عليها مقابل تواجد المقدسات الإسلامية على أراضيها، يدرك المتابع بوضوح و يستنتج بجلاء ما تعانيه الأمة من زيغ و انحراف عن جادة الصواب، لاسيما في باب استغلال الدين من قبل الأنظمة الحاكمة ، والتفسير المغلوط والمنقوص و المحرف لنصوص الدين من قبل علماء السلطان، الذين اختاروا الاصطفاف إلى جانب الحكم الجبري المستبد، بدل الاصطفاف إلى جانب الأمة و قضاياها المصيرية…

مقالنا هذا هو استكمال لسلسلة مقالات عن مقاصد الحج السياسية والحضارية،و سيحاول التعرض لاقتصاديات الحج و العمرة ، عبر البحث في الإحصائيات المتصلة بحجم الإنفاق و المداخيل، ومجالات توظيف عوائد الحج و العمرة .. كما سيعالج آفة الاستغلال السياسي لهذه المناسك و الترويج لمفاهيم مغلوطة من قبيل الإرهاب و الشرعية السياسية…

يلاحظ المتتبع للأخبار المتعلقة بالحج تزايد أهمية الأرقام و الإحصائيات حول مداخيل الحج و العمرة لدى رجل الشارع العربي و الإسلامي،  و لعل هذا الاهتمام المصحوب بالنقد و الاستهجان راجع إلى المواقف السياسية للحكومة السعودية تجاه العديد من القضايا التي تهم العرب و المسلمين، واصطفاف السعودية في معسكر المعادين للإسلام و لمصالح الأمة و يكفي كأمثلة دعم الانقلاب على الشرعية في مصر، الحملة العسكرية ضد شعب اليمن ، حصار قطر ،صياغة قوائم للإرهاب فيها الكثير من الحيف تجاه فئة عريضة من المسلمين وهي مواقف لا تليق بدولة و شعب شرفهما الله بخدمة الحرمين الشريفين…

فأهل الحجاز لهم فضل على باقي المسلمين منذ فجر الإسلام ، فالنبي محمد عليه السلام بعث بمكة و عاش و ارتحل و مات ببلاد الحجاز، أي بين مكة والمدينة المنورة، وصحابة رسول الله من خير الخلق و أشرفهم، فهؤلاء كان لهم فضل في نشر نور الإسلام في مختلف أرجاء المعمورة ، ولم يكونوا غزاة أو جباة أو مستعمرين، و إنما كانوا محررين و معلمين، علموا الناس معنى الحرية و الكرامة والعدل..و ناهضوا الظلم و العبودية والبغي..

لكن للأسف، انحرفت ارض الحجاز عن جادة الصواب، فالحج أصبح موردا ماليا و سياحة دينية تذر أموالا طائلة، ومنبر رسول الله أصبح يوظف لخدمة أجندة سياسية ضيقة الأفق بدلا أن يكون خدمة لصالح عامة المسلمين…

فالحج و العمرة مورد اقتصادي بالغ الأهمية للسعودية، فقد بلغ حجاج هذه السنة أكثر من مليوني حاج، مقارنة بمليون و 86 ألفا العام الماضي و حوالي 24 ألف فقط سنة 1941. و قد بلغ حجاج اندونيسيا و حدها 221 ألف حاج،و قد بلغت نفقات الحجاج من الداخل و الخارج حوالي 6.67 مليار دولار مقابل 3.73 مليار العام الماضي..

و مقابل هذه المداخيل فالسعودية بدورها تتحمل تكاليف فهي تتولى نشر أزيد من مئة ألف عنصر أمن للحفاظ على سلامة الحجاج، و نحو 17 ألغ من موظفي الدفاع المدني مدعومين بحوالي 3000 مركبة،كما تم تجهيز عشرات الآلاف من الخيام المكيفة في منى ، بين منى و عرفات و مكة لتأمين مقار إقامة للحجاج، كما تم توظيف أزيد من 700 طباخ سعودي لإطعام الحجاج ، كما تم ذبح حوالي 700 ألف رأس غنم كأضاحي يوم النحر..

و ما ينبغي الإشارة إليه أن الشعب السعودي و المجتمع المدني السعودي لا يبخل مطلقا في تقديم العون و خدمة حجاج بيت الله تطوعا و دون أجر، فالشباب السعودي يتفانون في خدمة حجاج بيت الله الحرام و لهم منا كامل الشكر… كما ينبغي أن نقر بأن بعد الإحصائيات المتداولة على وسائط التواصل الاجتماعي و بعض وسائل الإعلام غير صحيحة و لا يقبل بها العقل، فمن غير الجائز عقلا أن يبلغ عدد الأضاحي 6 مليون رأس و حجاج البيت لم يتعدى المليونين ونيف، إلا إذا كان الأمر يتعلق بمجموع أضاحي الشعب السعودي أيضا..

فحرص السعودية على توفير حج أمن لكافة الحجاج مجهود تشكر عليه، لكن عليها أن تراعي جانب الكلفة، فتكاليف الحج أصبحت جد مرتفعة و لا يستطيعها  90 في المئة من المسلمين،وهم بذلك يحرمون قسما كبيرا من المسلمين من أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، فسيادة الإنفاق المظهري في الأماكن المقدسة أمر فيه مجانبة ، إذ أن هناك إسراف و تبذير للموارد، فبعض الشعوب الإسلامية أحق بهذا الإنفاق، فالشعب اليمني يعاني ويلات الدمار و الأوبئة، والشعب الصومالي يعاني بدوره قلة الماء و الطعام، والشعب السوري مشرد، فهذه الأكباد الرطبة أولى بهذه الأموال.. نعم قد يتصور حكام السعودية أنهم بهذا الإنفاق المبالغ فيه يشرفون الأماكن المقدسة، إلا أن في ذلك مخالفة لمقاصد الشريعة، و مخالفة صريحة لوصايا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع بجبل عرفة..

 هذه المقاصد غائبة حتى في خطبة عرفات، فالخطيب نصب نفسه خصما وحكما، فهو يدافع عن التصور السياسي لحكام السعودية، بغض النظر عن صواب أو خطأ هذا التصور، فبدلا أن يدعو إلى حقن دماء المسلمين في اليمن وسوريا و بورما و ليبيا و مصر ، ويدعو الحكام للرأفة بشعوبهم و الرجوع عن غيهم، والامتثال لحكم الله  ولرأي غالبية الأمة. فقد فضل الخطيب اختزال ماسي الأمة في مكافحة الإرهاب و التطرف و الخروج على ولي الأمر، في مخالفة صريحة لنصوص الكتاب و السنة ، فطاعة ولي الأمر مرتبطة بمدى طاعته لكتاب الله و سنة رسوله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فكيف يطلب الخطيب طاعة خادم الحرمين الشريفين وقد انتهك حرمة دماء و أعراض المسلمين في اليمن و في مصر و غيرهما؟

فالحج فرصة لإصلاح ذات البين ، و المقدسات الإسلامية هي ملك لله وحده، و هي لكل المسلمين، ولا يحق لحكام السعودية و علماءها أن يغلبوا مصالحهم الوطنية أو الفئوية على مصلحة الأمة الإسلامية، فقوة السعودية نابعة من قوتها الدينية و الرمزية الناعمة، فدورها ينبغي أن يظل الحكم لا الخصم ، أداة للوحدة لا للتفريق، أن تكون دواء لا داء يفتك وحدة الأمة واستقرارها فعندما تحتفظ بدورها النزيه و الذي يخدم مصالح الأمة، فحينئذ سيشرفنا الدعاء لخادم الحرمين الشريفين بالنصر و التمكين، و لن نجد حرجا في مباركة احتكارهم لإدارة والإشراف على الأماكن المقدسة… “هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..

*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي .

*رأي اليوم .

مقالات ذات صلة