الزنانة…قصة قصيرة للقاص عابد الشرقي

أدب و شعر | 19 نوفمبر | مأرب برس :

اشتهر الشاب “أبو علي” والذي لم يبلغ العشرين عاما بعد بلقب “القيادي” في جبهة صرواح بمحافظة مأرب، حتى أصبح هذا اللقب ملازماً له في كل حركاته وسكناته، وكان الجميع من زملائه المجاهدين يحترمون رغبته تلك، فلا ينادونه إلا “أبو علي.. القيادي” وكان هو الآخر لا ينجز مهمة أو ينفذ توجيها؛ إلا ويلصق بذلك العمل لقبه المميز والحبيب إلى قلبه، وفي ذات يوم كان يقوم بزيارة عمل إلى أحد المواقع المجاورة لموقعه لكنه عندما أراد مغادرة الموقع والعودة… كان طيران العدو يحلق في سماء المنطقة.

الزملاء في الموقع كانوا يحذرونه بشدة من مغادرة الموقع في ظل التحليق المستمر ويذكروه -مازحين- بأنه القيادي أبو علي!!؟ وقد يستهدفه الطيران!! في محاولات ودودة منهم للتخفيف عنه كلما أظهر انزعاجه ووجوب مغادرته إلى موقعه..

وما إن غادر الطيران حتى وثب مغادراً هو الآخر مستقلاً دراجته النارية باتجاه موقعه.. إلا أن الطيران عاود التحليق بعد دقائق فقط …وكانت التحذيرات لا تتوقف عبر جهازه اللاسلكي من غرفة العمليات بالتمويه وأخذ الحيطة والحذر فما كان منه إلا أن توقف بدارجته تحت إحدى الأشجار مموهاً نفسه، ووجد كل ما حوله من الطيور والحيوانات الأليفة والحشرات قد موهت نفسها كذلك وكأنها هي الأخرى تنفذ التوجيهات حرفيا… يعلم أبو علي أن تمويه تلك الكائنات لنفسها طبيعياً فالعدو لا يستثني شيئاً في هذه الحرب ولا يتورع عن قصف أي شيء متحرك حتى لو كان ذلك المتحرك فرداً عادياً مثله..!!

كانت الطائرات تحلق وكأنما لو كانت تبحث عنه فأصواتها متركزة في المكان الذي هو فيه …فاستحسن الانتقال إلى مكان آخر.. وما إن نتحرك بضع خطوات حتى استهدف الطيران المكان الذي كان فيه، لتحرق دراجته النارية ويحترق المكان برمته.. وتهتز المنطقة بما فيها وتتصاعد الأتربة والغبار حتى غطت الموقعين المجاورين حيث كنا نراقب الموقف..!!

أما أبو علي بعد أن رأى أنه نجا من موت محقق وهو يتفحص رأسه ويديه وصدره ورجليه وقد كساه الغبار من أعلى رأسه حتى قدميه أدرك في قراره نفسه أنه هو المستهدف تحديداً وراح يلوم نفسه متمتماً متندرا “اليوم يومك يالقيادي”.

 ومع زيادة واستمرار التحليق فكر بالانتقال من مكانه إلى مكان آخر أكثر أماناً وسمع كأنما صوتاً يحثه على المغادرة فوراً، التفت يميناً فرأى الموقع الذي غادر منه ثم التفت شمالاً فرأى موقعنا حيث ننتظره ….ورأى ان تحركه نحو أي من الموقعين يعني التدمير الكلي للموقع بمن فيه وكشفه للعدو وهو ما لا يمكن أن يفعله حتى لو كلفه حياته …ثم أعاد النظر يميناً وشمالاً فلم يجد أمامه خيار آخر غير الاستسلام للأمر الواقع مقرراً عدم التحرك من مكانه وليحدث له ما يحدث.. تصبب أبو علي عرقاً.. وأحس أن نهايته قد اقتربت ولا مفر من مواجهة مصيره المحتوم بمفرده وأن يفدي زملاءه بنفسه، عاقداً العزم على الثبات والتضحية مرحباً بالشهادة.. طالما وقد حان أوانها !! اتخذ القرار وآخذ معه نفساً عميقاً.. ثم عاد وكتم أنفاسه استعداداً لتلقي الضربة الصاروخية التي لابد منها، وكأنه يحاول أن يصده بجسمه النحيل، وأخذ وضع القرفصاء في مكانه وشد بكلتا يديه على رقبته وأذنيه في وضعية استعداد قتالية غير متكافئة مع الصاروخ الذي لا تفصله عن لحظة الإطلاق سوى بضع دقائق…

وفيما هو كذلك خطرت أمامه صوراً مختلفة لمواقف عديدة مرت عليه في حياته منها ما حدثت له فعلاً وأخرى لم تحدث بعد.. رأى فيها والدته وهي تجادله وتمنعه من الالتحاق بالجبهات، وزميله في المدرسة الذي كان يتعارك معه لسبب وغير سبب رآه وهو يضمد جراحه الذي ينزف دماً.. كما تذكر كيف نجا من موت محقق إثر إلقاء ثلاث قنابل يدوية عليه لكنها لم تنفجر به.. تخيل نفسه جريحاً يتلقى العلاج في المستشفى ووالده يتحزم جعبته والقنابل وبيده سلاحه متوجهاً إلى الجبهة شاهد إخوته الصغار يتوثبون حماساً يريدون مرافقة والده ورأى والدته توعدهم بالسماح لهم لكن عندما يكبرون.. تذكر طيران العدو السعودي وهو يقصف الصالة الكبرى في صنعاء ومجلس عزاء النساء في أرحب.. تذكر نفسه وهو ينكل بأعداء الله فيرديهم صرعى تحت اقدامه وهو يصرخ متشياً بأعلى صوته.. الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل

ووجد نفسه يصرخ حقيقة وقد وقف في مكانه تحت الشجرة غير مبال بالطائرة التي كانت قد غادرت المكان والتفت فرأنا نهرع إليه من الموقعين ونقف حوله نطمئن على سلامته…… فيما كان صوت المنادي عبر الجهاز اللاسلكي يكرر النداء بأن طيران العدو قد غادر سماء المنطقة..!! وجدناه على حالته تلك يصرخ بأعلى صوته والغبار يغطي ملامحه ولا يظهر من وجهه إلا أسنانه!! هنأناه بالسلامة وتعالت أصواتنا بالضحك من حوله وهو يحكي لنا ما حدث له ويطمئنا أنه استطاع خداع طيران العدو -مازحاً- لأنه القيادي أبو علي!!؟ ولأن الطيران اكتشف أنه ليس القيادي الذي يبحث عنه..!! كنا نضحك جميعاً كما لو نضحك من قبل.. تغمرنا السعادة بسلامة بطلنا أبو علي القيادي.. واذا بصوت الزنانة في الاجواء قادم نحونا من بعيد وراح يقترب الصوت أكثر وأكثر، وكان أبو علي ونحن أيضاً نكره صوتها اللعين فهي أن جاءت تقيد حركتنا لساعات وساعات وقد ضقنا بها ذرعاً طوال عامين كاملين من العدوان..؟؟! أخذنا وضعية التمويه في كسر أشكالنا الهندسية بانتظارها حتى تتجاوز المنطقة التي نحن فيها!! لكنها كما يبدو توقفت فوقنا تحديداً وتوقفنا جميعاً معها عن الحركة..

كنا نتفحص أجهزتنا اللاسلكية التي خرست هي الأخرى عن النطق فالزنانة تحلق فوق رؤوسنا بل وبمستوى منخفض جداً من الأرض على غير العادة..!! في حين غرفة العمليات لم تطلق أي تحذير عن وجودها في سماء المنطقة ولم توجهنا لأخذ الحيطة والحذر كما هو المعتاد..!!؟ وتدريجياً أخذت الأصوات تتزايد والزنانة أصبحت أكثر من زنانة؟!! كنا نرغب في مشاهدتها في السماء لمعرفة أعدادها .. إلا أن أحدنا لم يفعل لأن حركة منا كهذه كفيلة بأن تكشف وجودنا وتعرضنا للقصف المباشر، ومع ذلك الوضع تزايد القلق لدينا ليس من الزنانات وتحليقها فهو أمر اعتيادي بالنسبة لنا، بل من صمت وتجاهل غرفة العمليات عن التحذير المعتاد للمقاتلين بوجودها. كيف وقد تواجدت أكثر من زنانة؟؟! تحلق وبمستويات منخفضة دونما تحذيرات … حتى ونحن في ذلك الوضع والقلق يحيط بنا من كل جانب همس أبو علي ليؤكد لنا نظريته !!حول الزنانة وبحثها عنه وملاحقتها له “قلت لكم.. هذا الطيران بعدي .. بعدي!!” ضحكنا جميعاً وشر البلية ما يضحك فعلاً إلا أن أصوات الطائرات دون طيار كانت تدنو وتقترب منا أكثر وأكثر وكأنها تستهدفنا نحن لا سوانا؟!! حاول بعضنا التأكد من سلامة جهازه اللاسلكي الصامت عن كل ما يدور في سماء المنطقة، فربما تكون التغطية غير متوفرة او ربما هناك خلل في البطاريات..!؟ وكان أبو علي الذي ظهر أكثر تفاؤلا هنا قبل دقائق فقط، كان قد تأكد من سلامة عمل جهازه اللاسلكي فراح ينادي على العمليات وينتقد صمتهم وتفريطهم بالمقاتلين المؤمنين.. بل لما استمر عدم الرد وتجاهل انتقاداته وتوجيهاته وقف مكرراً النداء عليهم لا سلكيا والغضب يتطاير من كلماته..

ونحن نومئ إليه بالإشارات بأن يعود لوضعية التمويه التي كان عليها وتذكيره بالزنانات التي فوق رؤوسنا لكنه لم يلتفت …. ولم ينتبه إلا وقد أطلقت الزنانة صاروخاً شق صوته جميع الأصوات ليقفز أبو علي بمفرده منبطحاً على الأرض …ونسمع بعدها صوت انفجار كبير في الجهة المقابلة لنا.. لكننا لا ندري بالضبط اين مكان الانفجار..؟! رفعنا رؤوسنا لمشاهدة مكان انفجار الصاروخ والغضب يسيطر علينا بسبب الأداء السلبي لغرفة العمليات!!؟ بينما القيادي أبو علي مستلقياً على الأرض دون حراك..!! وإذا بصوت المنادي عبر جهاز اللاسلكي يبشر المجاهدين عن استهداف تجمعات للعدو في “كوفل” بدقة عالية بصاروخ أطلق من طائرة دون طيار تابعة للجيش واللجان الشعبية..

وجدنا أنفسنا نقف جميعاً ومعنا أبو علي نصرخ بصوت واحد..

الله أكبر..

الموت لأمريكا..

الموت لإسرائيل..

اللعنة على اليهود..

النصر للإسلام.

مقالات ذات صلة