ما يحدث في المنطقة العربيَّة وذيولُ “الفوضى الخلّاقة”

عرفات الرميمة

 

تتناسَلُ الأحداثُ، وتظهر الدولُ العربية حُبلى بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لتلد الحروب العسكرية، من سوريا إلى ليبيا فاليمن، وتستمرّ من دون الوصول إلى نهاية أَو أفق، وتظلّ تدور في حلقة مفرغة.

كلّ ذلك يمثل ذيولاً لـ”الفوضى الخلاقة” التي أرادتها أمريكا في المنطقة العربية كنوع من استراتيجيّة طويلة الأمد، تقتطف ثمارها متى ما رأتها ناضجة بالنسبة إليها، حتى لو كانت نيئة وعسيرة الهضم بالنسبة إلى الشّعوب العربيّة.

ولن نفهم طبيعة الأحداث في الساحة العربية، من تظاهرات العراق إلى تظاهرات لبنان، وُصُـولاً إلى الوضع الاقتصادي المتأزم فيهما، ومُرورًا بالعدوان السعودي الأمريكي على اليمن -الذي لا تريد له أمريكا أن ينتهي سوى بشروطها-، وليس انتهاءً بما يحدث في ليبيا من فوضى تتنظر أمريكا أن تكون خلاقة بالنسبة إلى سياستها، فـ”الفوضى الخلاقة” هي كذلك بالنسبة إلى مصالح أمريكا والغرب، وهي مدمّـرة بالنسبة إلى الأوطان والشعوب العربيّة.

ولكي نفهم ما يحدث، يجب أن نقترب من مصطلح “الفوضى الخلاقة”؛ لأَنَّه الأَسَاسُ لكل ما يحدث في المنطقة، فقد دخل المصطلح القاموس السياسي في العقدين الأخيرين، وهو يمثل أحد أهم المفاتيح التي أنتجها العقل الاستراتيجي الأمريكي في التّعامل مع القضايا الدولية، حيث تمت صياغته بعناية فائقة من قبل النخب الأكاديمية وصنّاع السياسة في الولايات المتحدة.

وقد أطلقت مستشارة الأمن القومي الأمريكي، كوندوليزا رايز، مصطلح “الفوضى الخلاقة” في الشرق الأوسط في مؤتمر “آيباك” السنوي الذي ينظمه اللوبي الصهيوني، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، عند حديثها عن السياسة والمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.

وتعتبر “الفوضى الخلاقة” نظرية المحافظين الجدد في التعامل مع العالم -وخُصُوصاً العربي والإسلامي-، إذ يراد بها إغراق الدول بالفوضى، كي تتمكّن الصفوة من ضمان استقرار وضعها، ويُفهم من المصطلح أنّ الأيديولوجيات الكبرى لم يعد لها مكان، وقد فات أوانها، وخُصُوصاً بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وعلى المجتمعات أن تسلك ممرات كثيرة للوصول إلى الاستقرار، والمصطلح أقرب إلى مفهوم “الإدارة بالأزمات” في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل.

وقد وُجد هذا المصطلحُ في أدبيات الماسونية القديمة، حيث ورد في أكثر من مرجع -كما أشار إليه الباحث الأمريكي دان براون-، وعلى مستوى التحليل السياسي الدولي، أن البعض يرى أن الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين: الأولى صاغها فرانسيس فوكوياما في كتابه المعنون “نهاية التاريخ”، ويقسم فيها العالم إلى عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب -وهو الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأمريكي-، وعالم آخر ما بعد التاريخي ديموقراطي ليبرالي وفق الطريقة الأمريكية.

والمدرسة الثانية صاغها هنتنغتون في كتابه المعنون “صراع الحضارات”، معتبرًا أن النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً، وأن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون خطوط المعارك في المستقبل.

ويعدّ مايكل ليدين، العضوَ البارز في معهد “أمريكا أنتربرايز”، أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” أَو “البناءة” في معناه السياسي الحالي، وهو ما عبَّر عنه في مشروعه عن “التغيير الكامل في الشرق الأوسط”، الذي أعده في العام 2003، معتمداً فيه على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة، وفقًا لاستراتيجية جديدة تقوم على أَسَاس الهدم، ثم إعادة البناء.

وقد ذهب ليدين إلى تسويغ مذهب القوة اللامتناهية للولايات المتحدة، حتى لو أَدَّى بها الأمرُ إلى أن تقوم كُـلّ 10 سنوات باختيار بلد صغير وتدميره، لتظهر للعالم أنها جادة في أقوالها.

وقد طور نظرية “الفوضى الخلاقة” أحدُ أهم المحاضرين في وزارة الدفاع الأمريكية، وهو البروفيسور توماس بارنيت، بتقسيمه العالم إلى من هم في القلب أَو المركز (أمريكا وحلفاءها)، وصنّف دول العالم الأُخرى تحت مسمّى دول “الفجوة” أَو “الثقب”، وهي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي، والنزاعات المزمنة، هذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين، إذ شبّهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.

وبالتالي، على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته، ويخلص بارنيت إلى أن تلك “الفوضى البناءة” ستصل إلى درجة يصبح فيها من الضروري تدخّل الولايات المتحدة للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يسرّع بانكماش الثقوب، وليس مُجَـرّد احتوائها من الخارج.

وتمثل كتابات إليوت كوهن -أحد المصادر المهمة لنظرية “الفوضى الخلاقة”-، وخُصُوصاً كتابه عن “القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب”، ويرى أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة، معتبرًا أن الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكّـد أن على الولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي.

تقوم سياسة “الفوضى الخلاقة” على عدة دعائم أَسَاسية، أهمُّها: إطلاق الصراع العرقي والطائفي والديني وصراع العصبيات العشائرية والقبلية، كما حدث في العراق -بعد الاحتلال الأمريكيّ في العام 2003م-، وكما حدث في السودان بتغذية نوازع الانفصال العرقية والدينية في دارفور وجنوب السودان حتى تقسيمها في العام 2011م، والعمل على ضرب الدولة بجميع مؤسّساتها، وضرب الاستقرار الأمني فيها، واستبدال ولاءات مناطقية وحزبية وقبلية بها، كما حدث في الصومال في العام 1991م، وكما يحدث في اليمن وليبيا وسوريا منذ العام 2011م وحتى اليوم.

ومن أبرز مظاهر الفوضى الخلاقة اليوم هي الحصار الاقتصادي، وضرب قيمة العملات الوطنية أمام الدولار بشتى الطرق، ما يؤدي إلى انهيار المؤسّسات المصرفية وزيادة التضخّم، فتظهر البطالة، وتغيب الخدمات الأَسَاسية، فتخرج التظاهرات ضد الحكومة بشكل عفوي أولاً، وتتم أدلجتها واستغلالها كي تعمَّ الفوضى، كما حدث في إيران والعراق ولبنان، كُـلّ تلك الأحداث تكون مصحوبة بتعبئة إعلامية ممنهجة وحرب ناعمة تستخدم فيها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثّـف على الأمد الطويل.

والغرض من كُـلّ ذلك ظهور الفوضى التي تؤدي إلى الحروب العسكرية المتوازنة التي لا تؤدي إلى هزيمة طرف أَو استسلامه، كي تظل أطول فترة ممكنة، كما هو حاصل اليوم في اليمن وليبيا وسوريا، أَو الخنق الاقتصادي المتعمد الذي يؤدي إلى إسقاط الحكومات التي لا تؤيّد أمريكا وسيادة الفوضى في الشارع، كما هو حال الوضع في لبنان والعراق، حتى تأتي حكومة ترضى عنها أمريكا.

“الفوضى الخلاقة” بالنسبة إلى سياسة أمريكا تشبه خضّ الحليب ورجّه المتكرّر، كي تنتج زبدة سياسية في نهاية المطاف، تكون حلوة المذاق وسهلة الهضم على المعدة الأمريكية، وما لم تنتج ذلك، فإنَّ الخض والرج سوف يستمرُّ إلى ما لا نهاية، فيفسد الحليب ويُراق، من دون أن يستفيد منه أحد، وتلك هي قمّة الفوضى التي يُريدها الطاغوت الأمريكيُّ.

مقالات ذات صلة